الشكل وثورة اللون فى أعمال الفنان حازم بكري






ما هذه المساحة المفرودة من التوال؟ أهى طاقة يطل المرء من خلالها على عوالم اخرى، وخيالات كامنة ومسكونة بين دهاليز الروح وطيات الذاكرة، ام هى اشبه بمرآة عجيبة لاينعكس على صفحتها غير الجوهر والمخبوء داخل النفس وحواجز اللا شعور،






ليستحيل اللون شكلاً وتجسيداً لانفعال ما او لحظة كشف او ثورة عارمة، وتتحول المساحات والخطوط الى ترجمة شكلية لدفقة عشق او ساعة صفو وسكينة. يتوقف الأمر فقط على شكل العلاقة التى ارتضاها الفنان وتشكل العلاقة مابينه وبين المساحة المفرودة من الورق او التوال، وماتنطوى عليه هذه العلاقة من عزوبة الاقتراب والتوحد او نشوة الكشف والانصهار.

وربما تنتمى أعمال الفنان حازم بكرى الى ذلك النوع الاخير المرتبط باللاشعور، اذ تبدو جملة اعماله المعروضة حالياً فى مركز عبد المنعم الصاوى بضاحية الزمالك كما لو انها دفقة شعورية واحدة تتردد فى داخلها اصداء قلقة واضطرابه وثورته المكتومة وآماله وطموحاته التى لم تتحقق. كنت متابعاً له عن قرب وهو يتحسس طريقه مترددا وحائرا بين خطوطه واشكاله المباشرة المتوجسة من الخروج عن التعاليم الاكاديمية والقواعد المدرسية التى طالما شدت وثاقه منذ تخرجه فى كلية الفنون الجميلة، حتى ذلك التحول الذى طرأ على طريقته فى تناول الشكل والتعامل بحرية مع الخامات والادوات ومعالجاته المضطربة للمساحة المرسومة.

بدا الامر لديه كما لو انه اكتشاف جديد او كأنما هو قد عثر على ضالته بعد بحث وطول عناء، كان كالطفل الذى وجد لعبته الاثيرة لديه، يصب الوانه على التوال هنا وهناك.. يملأ المساحات.. ويسد الفراغات فى طريقة اداء محمومة ومتعطشة للحركة والفوران، لم يترك مجالا للعين كى تستريح، كأنما كان يريد ان يملأ كل مقطع وكل تفصيلة داخل اللوحة باللون والحركة، حاول الاستعانة بشتى الوسائل والادوات والخامات، بدا فى ثورته وكأنما قد سكنه شيطان اللون فجأة.. وكما يهدأ البركان بعد ثورة غضب، بدأت حدته تستقر شيئا فشيئا، وبدأ جموحه فى التراجع، واقترب من ترويض ذلك الطفل العابث فى داخله.

بدأت ألوانه العفوية تنحسر لتتخذ مرة اخرى اشكالا هائمة وطائرة وتكوينات متحورة، وبقدر تردده وقلقه وانفعاله كانت رغبته جامحة للخروج من اسر القوالب، ازال الشكل.. اخفاه بين تراكمات اللون وطبقات العجائن والخامات.. توارت الوجوه والملامح والابنية والحيوانات والاسماك التى كان يرسمها، وبدت اللوحة متخمة باللون والعجائن والمساحات الساخنة التى بدت كما لو انها تتشابك فى عراك اسطورى مع مساحات اخرى من اللون باردة، ونقاط كالجمر هناك تندفع باتجاه الازرق وخطوط رفيعة وحادة تحاصر الابيض الناصع او تلتف حول الاحمر الصريح، اما الاسود، ذلك المنتسب الى "جورج دووه" وهنرى ماتيس، فلقد صار لديه لونا للحلم وللسكينة المفرطة. لقد صار اللون على التوال محاصرا بين قضبان القرمزى تارة ومخالب الازرق تارة اخرى، ثم نراه فى زاوية اخرى وقد تكثف كى يتخذ شكلاً بنائيا بعد العفوية الثائرة، كأنه يتراجع فى هدوء امام طغيان العقل الواعي، فى ديناميكية مترددة تتوق الى السكون.

مساحة التوال صارت لديه ميدانا لمعركة بين الحركة التائهة والثبات المفرط.. صارت اقرب الى هاوية بركان تارة، وشاطئ من شواطئ المتوسط تارة اخرى، يمكنك ان تلمح خلاله مراكب مشرعة، وامواجا هادرة وطيورا عجيبة تحط على جزر من الاخضر الزيتوني، وبلاد بعيدة كالقمر، ودياجير منفلقة عن مسارها. لقد استطاع الفنان بحذر مشوب بالتوتر الفكاك من ترسبات التعاليم الاكاديمية والمطاردة اليومية للعقل الواعي. وهو يصف تجربته هذه قائلا: انها ليست مجرد رسومات او خطوط ملونة على مساحة التوال بل هى اشياء تعدت وقفزت من منطقة القلب الى العقل، من اللاشعور الى الشعور الواعي، انها علامات استفهام تلهث خلف الاجابة وراء احساس عابر، او هى النظرة الاولى لأشياء تحيط بعالمنا ونمر عليها يوميا ولا نصغى الا لصخب المعايشات والعلاقات المباشرة. انها تلك اللمحة السحرية الاولى التى تخطفنا وتبهرنا وتملأنا بالدهشة فنشعر بحرارة الشمس لأول مرة ونتأمل جيداً تحليق الطيور وصراع الاشرعة، وكأنه عالم مسحور نطبعه فى الذاكرة ونتجاوزه فيتجاوزنا وينسانا.

ياسر سلطان ـ القاهرة
alarabonline.org